فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أو سَيِّىءٍ كوظيفة وظفها بعض الظلاّم على المسلمين، وسكة أحدثها فيها تخسيرهم، أو شيء أحدثه فيه صدّ عن ذكر الله من ألحان ومَلاِهٍ، وكذلك كل سُنّة حسنة، أو سيئة يستنّ بها.
وقيل: هي آثار المشَّائين إلى المساجد.
وعلى هذا المعنى تأوّل الآية عمر وابن عباس وسعيد بن جُبير.
وعن ابن عباس أيضًا أن معنى: {وَآثَارَهُمْ} خُطاهم إلى المساجد.
قال النحاس: وهذا أولى ما قيل فيه؛ لأنه قال: إن الآية نزلت في ذلك؛ لأن الأنصار كانت منازلهم بعيدة عن المسجد.
وفي الحديث مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُكتبُ له برِجلٍ حصنة وتُحطُّ عنه برِجل سيئة ذاهبًا وراجعًا إذا خرج إلى المسجد».
قلت: وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: كانت بنو سَلِمة في ناحية المدينة فأرادوا النُّقلَة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن آثاركم تكتب» فلم ينتقلوا قال: هذا حديث حسن غريب من حديث الثوري.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: أراد بنو سَلِمة أن يتحوّلوا إلى قرب المسجد؛ قال: والبقاع خالية؛ قال: فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «يا بني سَلِمة ديارَكم تُكتَبْ آثارُكم ديارَكم تُكْتَبْ آثارُكم» فقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحوّلنا.
وقال ثابت البُنَاني: مشيت مع أنس بن مالك إلى الصلاة فأسرعت، فحبسني فلما انقضت الصلاة قال: مشيت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم وأسرعت، فحبسني فلما انقضت الصلاة قال: «أمَا علمت أن الآثار تُكتَب» فهذا احتجاج بالآية.
وقال قتادة ومجاهد أيضًا والحسن: الآثار في هذه الآية الخُطَا.
وحكى الثعلبي عن أنس أنه قال: الآثار هي الخُطَا إلى الجمعة.
وواحد الآثار أثَر ويقال أَثْر.
الثالثة: في هذه الأحاديث المفسّرة لمعنى الآية دليل على أن البعد من المسجد أفضل، فلو كان بجوار مسجد، فهل له أن يجاوزه إلى الأبعد؟ اختلف فيه؛ فروي عن أنس أنه كان يجاوز المحدَث إلى القديم.
وروي عن غيره: الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجْرًا.
وكره الحسن وغيره هذا؛ وقال: لا يدع مسجدًا قربَه ويأتي غيره.
وهذا مذهب مالك.
وفي تخطي مسجده إلى المسجد الأعظم قولان.
وخرّج ابن ماجه من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل في بيته بصلاة وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاةً وصلاته في المسجد الذي يُجمَّع فيه بخمسمائة صلاة».
الرابعة: {دياركم} منصوب على الإغراء أي الزموا، و{نكتب} جزم على جواب ذلك الأمر.
{وكُلَّ} نصب بفعل مضمر يدلّ عليه {أَحْصَيْنَاهُ} كأنه قال: وأحصينا كل شيء أحصيناه.
ويجوز رفعه بالابتداء إلا أن نصبه أولى؛ ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل.
وهو قول الخليل وسيبويه.
والإمام: الكتاب المقتدَى به الذي هو حجة.
وقال مجاهد وقتادة وابن زيد: أراد اللوح المحفوظ.
وقالت فرقة: أراد صحائف الأعمال. اهـ.

.قال أبو السعود:

واللاَّمُ في قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ} جوابُ القسمِ أي والله لقد ثبت وتحقَّقَ عليهم ألبتةَ لكن لا بطريق الجَبْرِ من غير أنْ يكون من قبلهم ما يقتضيِه بل بسبب إصرارِهم الاختياريِّ على الكُفر والإنكار وعدم تأثُّرهم من التَّذكيرِ والإنذار وغلوِّهم في العُتوِّ والطُّغيانِ وتماديهم في اتِّباعِ خُطُوات الشَّيطانِ بحيثُ لا يلويهم صارفٌ ولا يثنيهم عاطفٌ كيف لا والمرادُ بما حقَّ من القولِ قولُه تعالى لإبليسَ عند قوله {لأغوينَّهم أجمعين} {لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} وهو المَعنيُّ بقوله تعالى: {لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} كما يُلوحُ به تقديمُ الجِنَّةِ على النَّاسِ فإنَّه كما ترى قد أوقع فيه الحكم بإدخال جهنَّم على مَن تبعَ إبليسَ وذلك تعليلٌ له بتبعيته قطعًا وثبوت القولِ على هؤلاء الذين عبَّر عنهم بأكثرِهم إنَّما هو لكونِهم من جملة أولئك المصرِّين على تبعيَّةِ إبليسَ أبدًا وإذ قد تبيَّن أنَّ مناطَ ثبوتِ القول وتحقُّقهِ عليهم إصرارُهم على الكُفرِ إلى الموتِ ظهر أنَّ قوله تعالى: {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} متفرِّعٌ في الحقيقةِ على ذلك لا على ثُبوت القول.
وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا في أعناقهم أغلالا} تقريرٌ لتصميمهم على الكُفرِ وعدم ارعوائِهم عنه بتمثيلِ حالِهم بحال الذين غُلَّتْ أعناقُهم {فَهِىَ إِلَى الاذقان} أي فالأغلالُ منتهيةٌ إلى أذقانِهم فلا تدعُهم يلتفتونَ إلى الحقِّ ولاَ يَعطفونَ أعناقَهم نحوَه ولا يُطأطئونَ رءوسهم له {فَهُم مُّقْمَحُونَ} رافعونَ رءوسهم غاضُّون أبصارَهم بحيثُ لا يكادُون يَروَن الحقَّ أو ينظرُون إلى جهتِه {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فأغشيناهم فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} إمَّا تتَّمةٌ للتَّمثيل وتكميلٌ له أي تكميلٍ أي وجعلنا مع ما ذُكر من أمامهم سَدًَّا عظيمًا ومن ورائهم سَدًَّا كذلك فغطَّينا بهما أبصارهم فهم بسبب ذلك لا يقدرونَ على إبصارِ شيءٍ ما أصلًا وإمَّا تمثيلٌ مستقلٌّ فإنَّ ما ذُكر من جعلهم محصورينَ بين سَدَّينِ هائلين قد غطَّيا أبصارَهم بحيث لا يُبصرون شيئًا قطعًا كافٍ في الكشف عن كمال فظاعةِ حالِهم وكونِهم محبوسين في مطمورةِ الغيِّ والجهالاتِ محرومين عن النَّظرِ في الأدلَّةِ والآياتِ وقُرئ {سُدًَّا} بالضمِّ وهي لغةٌ فيه، وقيل ما كان من عمل النَّاسِ فهو بالفتحِ وما كان من خلقِ الله فبالضمِّ. وقُرئ {فأعشينَاهم} من العَشَا. وقيل الآيتانِ في بني مخزومٍ وذلك أنَّ أبا جهلٍ حلف لئِن رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي ليرضخنَّ رأسَه فأتاه وهو عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يُصلِّي ومعه حجرٌ ليدمغَه فلَّما رفع يدَه انثنتْ يدُه إلى عنقِه ولزق الحجرُ بيده حتَّى فكُّوه عنها بجهدٍ فرجع إلى قومه فأخبرَهم بذلك فقال مخزوميٌّ آخرُ أنا أقتلُه بهذا الحجرِ فذهب فأَعمى الله تعالى بصرَهُ.
{وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَءنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} بيانٌ لشأنِهم بطريق التَّصريحِ إثرَ بيانِه بطريق التَّميلِ أي مستوٍ عندهم إنذارُك إيَّاهم وعدمُه حسبما مرَّ تحقيقُه في سورةِ البقرةِ وقوله تعالى: {لاَ يُؤْمِنُونَ} استئنافٌ مؤكِّدٌ لما قبله مبيِّنٌ لما فيه من إجمالِ ما فيه الاستواءُ أو حالٌ مؤكِّدةٌ له أو بدلٌ منه ولما بُيِّن كونَ الإنذارِ عندهم كعدمِه عقب ببيانِ من يتأثَّر منه فقيل {إِنَّمَا تُنذِرُ} أي إنذارًا مستتبعًا للأثر {مَنِ اتبع الذكر} أي القُرآنَ بالتَّامُّلِ فيه أو الوعظِ ولم يصرَّ على اتِّباعِ خُطُوات الشَّيطانِ {وَخشِىَ الرحمن بالغيب} أي خافَ عقابَه وهو غائبٌ عنه على أنَّه حالٌ من الفاعلِ أو المفعولِ أو خافَه في سريرتِه ولم يغترَّ برحمتِه فإنَّه منتقمٌ قهَّار كما أنَّه رحيمٌ غَفَّار كما نطق به قولُه تعالى: {نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ العذاب الاليم} {فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} عظيمةٍ {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} لا يُقادر قدرُه. والفاء لترتيب البشارةِ أو الأمرِ بها على ما قبلها من اتِّباعِ الذِّكرِ والخشيةِ.
{إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الموتى} بيانٌ لشأنٍ عظيمٍ بنطوي على الإنذارِ والتَّبشيرِ انطواءً إجماليًَّا أي نبعثُهم بعد مماتِهم. وعن الحسنِ إحياؤهم إخراجُهم من الشِّركِ إلى الإيمانِ فهو حينئذٍ عدةٌ كريمةٌ بتحقيق المُبشَّر به {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ} أي ما أسلفُوا من الأعمالِ الصَّالحةِ وغيرِها {وَءاثَارَهُمْ} التي أبقوها من الحسناتِ كعلمٍ علمُوه أو كتابٍ ألَّفُوه أو حبيسٍ وقفُوه أو بناءٍ بنوَه من المساجدِ والرِّباطاتِ والقناطرِ وغيرِ ذلك من وجوهِ البرِّ ومن السَّيئاتِ كتأسيسِ قوانينِ الظُّلمِ والعُدوانِ وترتيبِ مبادِىء الشَّرِّ والفسادِ فيما بين العبادِ وغيره ذلكَ من فُنون الشُّرور التي أحدثُوها وسنُّوها لمن بعدهم من المُفسدين. وقيل هي آثارُ إلى المشَّائينَ إلى المساجدِ ولعلَّ المرادَ أنَّها من جُملةِ الآثارِ. وقُرئ {ويُكتب} على البناء للمفعولِ ورفعِ آثارَهم.
{وَكُلَّ شىْء} من الأشياءِ كائنًا ما كانَ {أحصيناه في إِمَامٍ مُّبِينٍ} أصلٍ عظيمِ الشَّأنِ مظهر لجميعِ الأشياءِ ممَّا كان وما سيكونُ وهو اللَّوحُ المحفوظُ. وقُرئ {كلُّ شيءٍ} بالرَّفعِ. اهـ.

.قال الألوسي:

{لَقَدْ حَقَّ} جواب لقسم محذوف أي والله لقد ثبت ووجب {القول} الذي قلته لإبليس يوم قال: {لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 28] وهو {لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [هود: 9 11] {على أَكْثَرِهِمْ} متعلق بحق.
والمراد سبق في علمي دخول أكثرهم فيمن أملأ منهم جهنم وهم تبعة إبليس كما يشير إليه تقديم الجنة على الناس وصرح به قوله تعالى: {لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 5 8].
ولا مانع من أن يراد بالقول لكن المشهور ما تقدم، وظاهر كلام الراغب أن المراد بالقول علم الله تعالى بهم ولا حاجة إلى التزام ذلك، وقيل: الجار متعلق بالقول ويقال قال عليه إذا تكلم فيه بالشر، والمراد لقد ثبت في الأزل عذابي لهم، وفيه ما فيه، ويؤيد تعلقه بحق قوله تعالى: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 6 9]، ونقل أبو حيان أن المعنى حق القول الذي قاله الله تعالى على لسان الرسل عليهم السلام من التوحيد وغيره وبان برهانه وهو كما ترى.
{فَهُمُ} أي الأكثر {لاَ يُؤْمِنُونَ} بإنذارك إياهم، والفاء تفريعية داخلة على الحكم المسبب عما قبله فيفيد أن ثبوت القول عليهم علة لتكذيبهم وكفرهم وهو علة له باعتبار سبق العلم بسوء اختيارهم وما هم عليه في نفس الأمر فإن علمه تعالى لا يتعلق بالأشياء إلا على ما هي عليه في أنفسها ومآله إلى أن سوء اختيارهم وما هم عليه في نفس الأمر علة لتكذيبهم وعدم إيمانهم بعد الإنذار فليس هناك جبر محض ولا أن المعلوم تابع للعلم.
وقال بعضهم: الفاء إما تفريعية وكون ثبوت القول علة لعدم إيمانهم مبني على أن المعلوم تابع للعلم وإما تعليلية مفيدة أن عدم الإيمان علة لثبوب القول بناءً على أن العلم تابع للمعلوم، ولا يلزم الجبر على الوجهين، أما على الثاني فظاهر، وأما على الأول فلأن العلم ليس علة مستقلة عند القائل بذلك بل لاختيارهم وكسبهم مدخل فيه فتأمل.
والتفريع هو الذي أميل إليه.
{إِنَّا جَعَلْنَا في أعناقهم} جمع عنق بالضم وبضمتين وهو الجيد ويقال عنيق كأمير وعنق كصرد {أغلالا} جمع غل بالضم وهو على ما قيل ما يشد به اليد إلى العنق للتعذيب والتشديد، وفي البحر الغل ما أحاط بالعنق على معنى التثقيف والتضييق والتعذيب والأسر ومع العنق اليدان أو اليد الواحدة.
وذكر الراغب أنه ما يقيد به فتجعل الأعضاء وسطه، وأصله من الغلل تدرع الشيء وتوسطه ومنه الغلل للماء الجاري بين الشجر وقد يقال له الغيل، وكأن في الكلام عليه قلبًا أي جعلنا أعناقهم في أغلال كما تقول جعلت الخاتم في أصبعي أي جعلت أصبعي في الخاتم، وجوز أن يكون على حد {لاَصَلّبَنَّكُمْ في جُذُوعِ النخل} [طه: 71] والتنوين للتعظيم والتهويل أي أغلالًا عظيمة هائلة، وإسناد الفعل إلى ضمير العظمة مما يؤيد ذلك {فَهِىَ} أي الأغلال كما هو الظاهر {إِلَى الاذقان} جمع ذقن بالتحريك مجتمع اللحيين من أسفلهما، وأل للعهد أو عوض عن المضاف إليه والظرف متعلق بكون خاص خبر هي أي فهي واصلة أو منتهية إلى أذقانهم، والفاء للتفريع، وقيل: لمجرد التعقيب بناءً على عدم حمل التنوين على التعظيم والتهويل، وقوله تعالى: {فَهُمُ} نتيجة {فَهِىَ إِلَى الاذقان} فالفاء تفريعية أيضًا، والمقمح على ما في النهاية الذي يرفع رأسه ويغض بصره وكأنه أراد المجهول بحيث يرفع. إلخ.
وقال أبو عبيدة: يقال قمح البعير قموحًا إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب والجمع قماح، ومنه قول بشر يصف سفينة أخذهم الميد فيها:
ونحن على جوانبها قعود ** نغض الطرف كالإبل القماح

وقال الليث: هو رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكريه ثم يعود، ومنه قيل للكانونين شهرًا قماح بضم القاف وكسرها لأن الإبل إذا وردت الماء ترفع رءوسها لشدة برده، وقال الراغب: القمح رفع الرأس لسف الشيء المتخذ من القمح أي البر إذا جرى في السنبل من لدن الإنضاج إلى حين الاكتناز ثم يقال لرفع الرأس كيفما كان قمح، وقمح البعير رفع رأسه وأقمحت البعير شددت رأسه إلى خلف، وقيل: المقمح الذي يجذب ذقنه حتى يصير في صدره ثم يرفع، وقال مجاهد: القامح الرافع الرأس الواضع يده على فيه، وقال الحسن: هو الطامح ببصره إلى موضع قدمه، وظاهره يقتضي أن يكون هناك نكس للرأس والمعروف في القمح الرفع، ووجه التفريع أن طوق الغل الذي في عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادرًا من الحلقة إلى الذقن فلا يخليه يطأطىء ويوطىء قذاله فلا يزال مقمحًا لاسيما إذا كان الغل عظيمًا، وقال ابن عطية: إن الأغلال عريضة تبلغ بحروفها الأذقان أي فيحصل القمح، وكلام ابن الأثير يشعر أن القمح لضيق الغل، وإن أريد جعلنا في كل من أعناقهم أغلالًا كان أمر القمح أظهر وأظهر، وقال البغوي والطبري والزجاج والطبرسي: ضمير هي للأيدي وإن لم يتقدم لها ذكر لوضوح مكانها من المعنى لأن الغل يتضمن العنق واليد ولذلك سمي جامعة وما يكون في العنق وحده أو في اليد وحدها لا يسمى غلًا فمتى ذكر مع العنق فاليد مرادة أيضًا ومتى ذكر مع اليد كما في قراءة ابن عباس {فَى أَيْدِيهِمْ أغلالا} وفي قراءة ابن مسعود {فِى أيمانهم أغلالا} فالعنق مراد أيضًا، وهذا ضرب من الإيجاز والاختصار ونظير ذلك قول الشاعر:
وما أدري إذا يممت أرضا ** أريد الخير أيهما يليني

أألخير الذي أنا أبتغيه ** أم الشر الذي لا يأتليني

حيث ذكر الخير وحده وقال أيهما أي الخير والشر، وقد علم أن الخير والشر يعرضان للإنسان، واختار الزمخشري ما تقدم ثم قال: والدليل عليه قوله تعالى: {فَهُم مُّقْمَحُونَ} ألا ترى كيف جعل الإقماح نتيجة {فَهِىَ إِلَى الاذقان} ولو كان الضمير للأيدي لم يكن معنى التسبب في الأقماح ظاهرًا على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف، وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى إلى نفسه إلى الباطن الذي يجفو عنه ترك للحق الأبلج إلى الباطل اللجلج. اهـ.
وصاحب الانتصاف أراد الانتصار للجماعة فقال: يحتمل أن يكون الفاء في {فَهُم مُّقْمَحُونَ} للتعقيب كسابقه أو للتسبب فإن ضغط اليد مع العنق يوجب الإقماح لأن اليد تبقى ممسكة بالغل تحت الذقن رافعة لها ولأن اليد إذا كانت مطلقة كانت راحة للمغلول فربما يتحيل بها على فكاك الغل فيكون منبهًا على انسداد باب الحيلة. اهـ.
قال صاحب الكشف: والجواب أنه لا فخامة للتعقيب المجرد، ثم إن ما ذكره الزمخشري وقد أشرنا إليه نحن فيما سبق مستقل في حصول الإقماح فأين التعقيب، وبه خرج الجواب عن التسبب، وقوله ولأن اليد الخ لا يستقل جوابًا دون الأولين. اهـ.
وعلى العلات رجوع الضمير إلى الأغلال هو الحري بالاعتبار وبلاغة الكتاب الكريم تقتضيه ولا تكاد تلتفت إلى غيره.